فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر القرطبي عن الشعبي أنه قال: أكثرَ الناسُ علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش فليس بطن من بطونهم إلا وقد وَلَدَهُ فقال الله له: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} إلاَّ أن تَوَدوني في قرابتي منكم، أي تَرَاعُوا ما بيني وبينكم فتصدّقوني، فالقربى هاهنا قرابة الرحم كأنه قال: اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنُبوءةِ. انتهى كلام القرطبي.
وما فسر به بعض المفسرين أن المعنى: إلا أن تودّوا أقاربي تلفيق معنى عن فهم غير منظور فيه إلى الأسلوب العربي، ولا تصح فيه رواية عمن يعتد بفهمه.
أمّا كون محبة آل النبي صلى الله عليه وسلم لأجل محبة ما له اتصال به خُلُقاً من أخلاق المسلمين فحاصل من أدلة أخرى، وتحديد حدودها مُفصَّل في الشفاء لعياض.
والاستثناء منقطع لأن المودّة لأجل القرابة ليست من الجزاء على تبليغ الدعوة بالقرآن ولكنها مما تقتضيه المروءة فليس استثناؤها من عموم الأجر المنفي استثناء حقيقياً.
والمعنى: لا أسألكم على التبليغ أجراً وأسألُكم المودّة لأجل القربى.
وإنما سألهم المودّة لأن معاملتهم إياه معاملةَ المودّة معِينة على نشر دعوة الإسلام، إذ تَلِين بتلك المعاملة شكيمتهم فيتركون مقاومته فيتمكن من تبليغ دعوة الإسلام على وجه أكمل.
فصارت هذه المودة غرضاً دينياً لا نفع فيه لنفس النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الأخبار الموضوعة في أسباب النزول أن سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قدم المدينة كانت تنوبه نوائب لا يسعها ما في يديه.
فقالت الأنصار: إن هذا الرجل هداكم الله به فنجمع له مالاً، ففعلوا ثم أتوه به، فنزلت.
وفي رواية: أن الأنصار قالوا له يوماً: أنفسُنا وأموالنا لك، فنزلت.
وقيل نزل {ذلك الذي يبشر الله عباده} إلى قوله: {إنه عليم بذات الصدور} [الشورى: 23، 24].
ولأجل ذلك قال فريق: إن هذه الآيات مدنية كما تقدم في أول السورة وهي أخبار واهية.
وتضمنت الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن أن يتطلب من الناس جزاء على تبليغ الهدى إليهم فإن النبوءة أعظم مرتبة في تعليم الحقّ وهي فوق مرتبة الحكمة، والحكماء تنزّهوا عن أخذ الأجر على تعليم الحكمة، فإن الحكمة خير كثير والخير الكثير لا تقابله أعراض الدنيا، ولذلك أمر الله رُسُله بالتنزّه عن طلب جزاء على التبليغ، فقال حكاية عن نوح {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين} [الشعراء: 109].
وكذلك حكى عن هود وصالح ولوط وشعيب.
{القربى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ}.
تذييل لجملة {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات} والمعنى: وكلما عمل مؤمن حسنة زدناه حسناً من ذلك الفضل الكبير.
وهذا في معنى قوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] والواو اعتراضية.
والاقتراف: افتعال من القَرْف، وهو الاكتساب، فالاقتراف مبالغة في الكسب نظيرَ الاكتساب، وليس خاصاً باكتساب السوء وإن كان قد غلب فيه، وأصله من قَرَفَ الشجرةَ، إذا قشر قِرْفَها، بكسر القاف، وهو لِحَاؤها، أي قَشْرُ عودها، وتقدم عند قوله تعالى: {وليَقترفوا ما هم مقترفون} في سورة الأنعام (113)، وعند قوله: {وأموالٌ اقترفتموها} في سورة براءة (24).
والحسنة: الفَعْلة ذات الحسن صفة مشبهة غلبت في استعمال القرآن والسنة على الطاعة والقربة فصارت بمنزلة الجوامد عَلَماً بالغلبة وهي مشتقة من الحسن وهو جمال الصورة.
والحُسن: ضد القبح وهو صفة في الذات تقتضي قبول منظرها في نفوس الرّائين وميلهم إلى مداومة مشاهدتها.
وتوصف المعنويات بالحسن فيراد به كون الفعل أو الصفة محمودة عند العقول مرغوباً في الاتصاف بها.
ولما كانت الحسنة مأخوذة من الحُسن جعلت الزيادة فيها من الزيادة في الحسن مراعاة لأصل الاشتقاق فكان ذكر الحُسْن من الجناس المعبر عنه بجناس الاشتقاق نحو قوله تعالى: {فأقم وجهك للدّين القيم} [الروم: 43]، وصار المعنى نزِد له فيها مماثلاً لها.
ويتعين أن الزيادة فيها زيادة من غير عَملِه ولا تكون الزيادة بعمل يعمله غيره لأنها تصير عملاً يستحق الزيادة أيضاً فلا تنتهي الزيادة فتعيّن أن المراد الزيادة في جزاء أمثالها عند الله.
وهذا معنى قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشْر أمثالها} [الأنعام: 160] وقوله {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من هَم بحسنة فعمِلها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف».
وجملة {إن الله غفور شكور} تذييل وتعليل للزيادة لقصد تحقيقها بأن الله كثيرة مغفرته لمن يستحقها، كثير شكره للمتقربين إليه.
والمقصود بالتعليل هو وصف الشكور، وأما وصف الغفور فقد ذكر للإشارة إلى ترغيب المقترفين السيئات في الاستغفار والتوبة ليغفر لهم فلا يقنطوا من رحمة الله. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{حم (1) عسق 2)}.
التفسير: الكلام في {حم} كما سبق وأما {عسق} فقد قيل: إنه مع {حم} اسم للسورة. وقيل: رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها. وقيل: الحاء حكم الله، والميم ملكه، والعين علمه، والسين سناؤه، والقاف قدرته. وقيل: الحاء حرب علي ومعاوية، والميم ولاية المروانية، والعين ولاية العباسية، والسين ولاية السفيانية، والقاف قدرة المهدي. وهذه الأقاويل مما لا معول عليها. وقال أهل التصوف: حاء حبه، وميم محبوبية محمد، وعين عشقه، وقاف قربه إلى سيده. أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات. والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح.
وإنما فصل {حم} من {عسق} حتى عدا آيتين خلاف {كهيعص} [مريم: 1] لتقدم {حم} قبله واستقلالها بنفسها، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحاً إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب. روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه {حم عسق} والله أعلم بصحة هذه الرواية. والأظهر أن يقال: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الأنبياء قبلك. والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18، 19] وفي ورود لفظ {يوحى} مستقبلاً لا ماضياً إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته. ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله {له ما في السموات} الخ. ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال {تكاد السموات يتفطرن} وقد سبق في آخر سورة مريم. ومعنى {من فوقهن} أن الانفطار يبتدئ من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل. قال جار الله: كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. وقيل: معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل: السماء فوقنا. وقيل: الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس: يتفطرن من ثقل الرحمن. فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة. ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافاً محذوفاً أي من ثقل ملائكة الرحمن كقوله صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء أطأ وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد». ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون بالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال {والملائكة} قيل: هو عام. وقيل: حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم هاهنا فقال {لمن في الأرض} أي يطلبون أن لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعاً في توبة الكفار والفساق منهم. وقيل: هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ. قوله {وكذلك أوحينا} قال ابن بحر: هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض. وقال جار الله: الكاف مفعول به لأوحينا، {وذلك} إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب. وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع.
{وقرآناً عربياً} حال. والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار. ويجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر. قال أهل اللغة: يقال أنذرته كذا وبكذا. فمن الاستعمال الثاني قوله {لتنذر أم القرى} أي أهل مكة على حذف المضاف، والمفعول الثاني وهو القرآن محذوف. ومن الاستعمال الأول قوله {وتنذر يوم الجمع} والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوماً تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله. قلت: ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا أن قوله {وتنذر} يكون مكرراً للمبالغة والتقدير الأصلي: لتنذر أم القرى يوم الجمع. وقد مر في القصص في قوله {حتى يبعث في أمها} [الآية: 59] أن مكة لم سميت أم القرى. وقوله {ومن حولها} يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28] وقوله {لا ريب فيه} اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة. وقوله {فريق} مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع.
ثم بين بقوله {ولو شاء الله} إلخ. أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق بمشيئته وإرادته. وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء، وقد مر نظائره مراراً. والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم. وقيل: أن يكونوا أهل ضلالة قياساً على قوله {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} [الزخرف: 33] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلاً {أم اتخذوا من دونه أولياء} إن أرادوا أولياء بحق {فالله هو الولي} الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه {يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} وهو الحقيق بأن يتخذ ولياً. وحين منع الرسول صلى الله عليه وسلم من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال {وما اختلفتم} والتقدير: قل يا محمد كذا بدليل قوله {ذلكم الله ربي} الآية. والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين. وقيل: وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] وقيل: وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة.
وقيل: ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح وغيره. قال في الكشاف: ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. قلت: إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده. وقوله {وما اختلفتم} شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل {يا أيها الناس} ومثل {أقيموا الصلاة} والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد. فإن قيل: المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد. قلنا: إذا كان القياس مأموراً به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيباً، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال: «اختلاف أمتي رحمة» ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيداً لصحة أحكامه فقال {فاطر السموات والأرض} وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى {ومن الأنعام أزواجاً} أنه خلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً {يذرؤكم فيه} يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل. والضمير في {يذرؤكم} راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين، وذلك أن فيه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة، وتغليب العقلاء على غيرهم. وعلة الأول الخطاب، وعلة الثاني العقل. وإنما قال {يذرؤكم فيه} ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعاً ومعدناً للتكثير كقوله {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى {ليس كمثله شيء} نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب، ولعل هذا التقرير مختص بنا. قال في الكشاف: إنه من باب الكناية كقولهم: مثلك لا يبخل. يعنون أنت لا تبخل. وكذا هاهنا يريد ليس كالله شيء. وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد. وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية. قوله {له مقاليد السموات والأرض} أي له مفاتيح خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضاً. وحين عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله {كذلك يوحى إليك} إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال {شرع لكم} أي أوجب وبين لأجلكم {من الدين ما وصى به نوحاً} وهو أقدم الأديان بعد الطوفان {والذي أوحينا إليك} وهو ختمها {وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} وهي الملل المعتبرة المتوسطة.
ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله {أن أقيموا الدين} الحنيفي ومحله نصب بدلاً من مفعول {شرع} أو رفع على الاستئناف كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} [المائدة: 48] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في {أوحينا} والخطاب في {إليك} تفخيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله {كبر على المشركين} أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله. ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه. يقال: اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه، والتركيب يدل على الجمع والضم، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين. ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم} ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته كقوله في آل عمران {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم} [الآية: 19] وقيل: وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به. قال أهل البرهان: لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله {إلا من بعدما جاءهم العلم} حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله {إلى أجل مسمى} ليكون محدوداً من الطرفين. وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية {وإن الذين أورثوا الكتاب} هم العرب ورثوا القرآن من بعدما أورث أهل الكتابين كتابهم أو هم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين {فلذلك} أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم {فادع} إلى الملة الحنيفية. وقيل: اللام بمعنى إلى والإشارة إلى القرآن {وأستقم} عليها كما أمرت {ولا تتبع أهواءهم} المختلفة {وقل آمنت بما أنزل الله من} أي {كتاب} كان {وأمرت لأعدل بينكم} أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري. ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال {الله ربنا وربكم لنا} جزاء {أعمالنا ولكم} جزاء {أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم} وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف. وقيل: إنه منسوخ بآية القتال وقوله {الله يجمع بيننا} إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم.
ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله {من بعدما استجيب له} أي من بعدما استجاب له الناس وقبلوا دينه، أو بعدما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر {حجتهم داحضة} أي باطلة زائلة {عند ربهم} وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا. وأيضاً أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم مختلف فيها. والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضاً. ثم حث على سلوك طريقة العدل حذراً من عقاب يوم القيامة فقال {الله الذي أنزل الكتاب} أي جنسه متلبساً بالغرض الصحيح {والميزان} أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان. وقيل: هو العقل. وقيل: الميزان نفسه وذلك في زمن نوح. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب {وما يدريك} يا محمد أو أيها المكلف {لعل الساعة} أي مجيئها {قريب} أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه، أو أراد شيء قريب. ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف. ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه. ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} يقولون على سبيل السخرية: متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال. ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالاً له أو حذراً من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجاً بالرجاء، وقد مر تحقيقه مراراً. ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر البعث بقوله {ألا إن الذين يمارون} وأصله من المرية الشك {لفي ضلال بعيد} عن الصواب لأن استيفاء حق.